فصل: تفسير الآية رقم (165):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (165):

{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)}
{أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا} كلامٌ مبتدأ مَسوقٌ لإبطال بعضِ ما صدر عنهم من الظنون الفاسدةِ والأقاويلِ الباطلةِ الناشئةِ منها، إثرَ إبطالِ بعضٍ آخرَ منها، والهمزةُ للتقريع والتقريرِ، والواو عاطفةٌ لمدخولها على محذوف قبلها، و{لَّمّاً} ظرف لقلتم مضافٌ إلى ما بعده، و{قَدْ أَصَبْتُمْ} في محل الرفعِ على أنه صفةٌ لمصيبة، والمرادُ بها ما أصابهم يومَ أحدٍ من قتل سبعين منهم، وبمِثْليها ما أصاب المشركين يومَ بدرٍ من قتل سبعين منهم وأسْرِ سبعين. و{أنى هذا} مقولُ قلتم، وتوسيطُ الظرفِ وما يتعلق به بينه وبين الهمزةِ، مع أن المقصودَ إنكارُه والمعطوفُ بالواو حقيقةً لتأكيد النكيرِ وتشديد التقريعِ فإن فعلَ القبيحِ في غير وقتِه أقبحُ، والإنكارَ على فاعله أدخلُ، والمعنى أحين أصابكم من المشركين نصفُ ما قد أصابهم منكم قبل ذلك جزِعتم وقلتم: من أين أصابنا هذا؟ وقد تقدم الوعدُ بالنصر على توجيه الإنكارِ والتقريعِ إلى صدور ذلك القولِ عنهم في ذلك الوقتِ خاصة بناءً على عدم كونِه مَظِنةً له داعياً إليه بل على كونه داعياً إلى عدمه، فإن كونَ مصيبةِ عدوِّهم ضعفَ مصيبتِهم مما يُهوِّن الخطْبَ ويورث السَّلْوةَ، أو أفعلتم ما فعلتم ولما أصابتكم غائلتُه قلتم: أنى هذا؟ على توجيه الإنكارِ إلى استبعادهم الحادثةَ مع مباشرتهم لسببها، وتذكيرُ اسمِ الإشارةِ في {أنى هذا} مع كونه إشارةً إلى المصيبة ليس لكونها عبارةً عن القتل ونحوِه بل لما أن إشارتَهم ليست إلا إلى ما شاهدوه في المعركة من حيث هو من غير أن يخطُر ببالهم تسميتُه باسمٍ ما فضلاً عن تسميته باسم المصيبةِ وإنما هي عند الحكاية، وقوله عز وجل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُجيب عن سؤالهم الفاسدِ إثرَ تحقيقِ فسادِه بالإنكار والتقريعِ ويُبكّتهم ببيان أن ما نالهم إنما نالهم من جهتهم بتركهم المركزَ وحِرصِهم على الغنيمة وقيل: باختيارهم الخروجَ من المدينة، ويأباه أن الوعدَ بالنصر كان بعد ذلك كما ذكر عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} الآية، وأن عملَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بموجبه قد رَفَع الخطرَ عنه وخفف جنايتَهم فيه، على أن اختيارَ الخروجِ والإصرارَ عليه كان ممن أكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ وأين هم من التفوّه بمثل هذه الكلمة؟ وقيل: بأخذهم الفداءَ يوم بدر قبل أن يُؤذَن لهم، والأولُ هو الأظهرُ والأقوى، وإنما يعضُده توسيطُ خطابِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بين الخِطابين المتوجهَيْن إلى المؤمنين وتفويضُ التبكيتِ إليه عليه السلام، فإن توبيخَ الفاعل على الفعل إذا كان ممن نهاه عنه كان أشدَّ تأثيراً {إِنَّ الله على كُلِّ شيء قَدِيرٌ} ومن جملته النصرُ عند الطاعةِ والخِذلانُ عند المخالفةِ وحيث خرجتم عن الطاعة أصابكم منه تعالى ما أصابكم. والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها داخلٌ تحت الأمرِ.

.تفسير الآيات (166- 167):

{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)}
{وَمَا أصابكم} رجوعٌ إلى خطاب المؤمنين إثرَ خطابِه عليه السلام بسر يقتضيه، وإرشادٌ لهم إلى طريق الحقِّ فبما سألوا عنه وبيانٌ لبعض ما فيه من الحِكَم والمصالحِ ودفعٌ لما عسى أن يُتوهمَ من قوله تعالى: {هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} من استقلالهم في وقوع الحادثةِ، والعدولُ عن الإضمار إلى ما ذكر للتهويل وزيادةِ التقريرِ ببيان وقتِه بقوله تعالى: {يَوْمَ التقى الجمعان} أي جمعُكم وجمعُ المشركين {فَبِإِذْنِ الله} أي فهو كائن بقضائه وتخليتِه الكفارَ، سُمّيَ ذلك إذناً لكونها من لوازمه {وَلِيَعْلَمَ المؤمنين} عطفٌ على قوله تعالى: {فَبِإِذْنِ الله} عطفَ المسبَّب على السبب، والمرادُ بالعلم التمييزُ والإظهارُ فيما بين الناسِ، {وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ} عطف على ما قبله من مثله، وإعادةُ الفعل لتشريف المؤمنين وتنزيهِهم عن الانتظام في سلك المنافقين وللإيذان باختلاف حالِ العلم بحسب التعلقِ بالفريقين فإنه متعلقٌ بالمؤمنين على نهج تعلقِه السابقِ وبالمنافقين على وجه جديدٍ، وهو السرُّ في إيراد الأولِين بصيغة اسمِ الفاعلِ المنبئةِ عن الاستمرار والآخِرين بموصول صِلتُه فعلٌ دالٌ على الحدوث، والمعنى وما أصابكم يومئذ فهو كائن لتمييز الثابتين على الإيمان والذين أظهروا النفاقَ {وَقِيلَ لَهُمْ} عطفٌ على نافقوا داخلٌ معه في حيز الصلةِ أو كلامٌ مبتدأ. قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: هم عبدُ اللَّه بنُ أُبي وأصحابُه حيث انصرفوا يوم أحُدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم عبدُ اللَّه بنُ عمرو بنِ حرامٍ: أذكِّرُكم الله لا تخذُلوا نبيَّكم وقومَكم ودعاهم إلى القتال وذلك قوله تعالى: {تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا} قال السدي: ادفعوا عنا العدوَّ بتكثير سوادِنا إن لم تقاتلوا معنا، وقيل: أو ادفعوا عن أهلكم وبلدِكم وحريمِكم إن لم تقاتلوا في سبيل الله تعالى، وتركُ العطفِ بين تعالَوْا وقاتِلوا لما أن المقصودَ بهما واحد وهو الثاني، وذِكْرُ الأولِ توطئةٌ له وترغيبٌ فيه لما فيه من الدَلالة على التظاهر والتعاون {قَالُواْ} استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال ينسحب عليه الكلامُ كأنه قيل: فماذا صنعوا حين خُيِّروا بين الخَصْلتين المذكورتين؟ فقيل قالوا: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم} أي لو نُحسِن قتالاً ونقدِر عليه. وإنما قالوه دغَلاً واستهزاءً، وإنما عبّر عن نفي القدرة على القتال بنفي العِلم به لما أن القدرةَ على الأفعال الاختياريةِ مستلزِمةٌ للعلم بها، أو لو نعلم ما يصِحُّ أن يسمَّى قِتالاً لاتبعناكم ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال أصلاً وإنما هو إلقاءُ النفسِ إلى التهلُكة. وفي جعلهم التالي مجردَ الاتباعِ دون القتالِ الذي هو المقصودُ بالدعوة دليلٌ على كمال تثبُّطِهم عن القتال حيث لا ترضى نفوسُهم بجعله تالياً لمقدَّم مستحيلِ الوقوعِ {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان} الضميرُ مبتدأٌ وأقربُ خبرُه واللامُ في للكفر وللإيمان متعلقةٌ به كذا يومئذٍ ومنهم، وعدمُ جوازِ تعلقِ حرفين متّحدين لفظاً ومعنى بعامل واحدٍ بلا عطفٍ أو بدليةٍ إنَّما هو فيما عدا أفعلِ التفضيلِ من العوامل، لاتحاد حيثيةِ عملِها، وأما أفعلُ التفضيلُ فحيث دل على أصل الفعلِ وزيادتِه جرى مَجرى عاملين كأنه قيل: قُربُهم للكفر زائدٌ على قربهم للإيمان، وقيل: تعلقُ الجارَّيْن به لشَبَهِهما بالظرفين، أي هم للكفر يوم إذْ قالوا ما قالوا أقربُ منهم للإيمان فإنهم كانوا قبل ذلك يتظاهرون بالإيمان، وما ظهرت منهم أَمارةٌ مُؤذِنةٌ بكفرهم فلما انخذلوا عن عسكر المسلمين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنونُ بهم واقتربوا من الكفر، وقيل: هم لأهل الكفرِ أقربُ نُصرةً منهم لأهل الإيمانِ لأن تقليلَ سوادِ المسلمين بالانخذال تقويةٌ للمشركين وقوله تعالى: {يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} جملةٌ مستأنفةٌ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها وذِكرُ الأفواهِ والقلوبِ تصويرٌ لنفاقهم وتوضيحٌ لمخالفة ظاهرِهم لباطنهم، و{مَا} عبارةٌ عن القول، والمرادُ به إما نفسُ الكلامِ الظاهرِ في اللسان تارةً وفي القلب أخرى، فالمثبَتُ والمنفيُّ متحدان ذاتاً وإن اختلفا مظهراً، وإما القولُ الملفوظُ فقط فالمنفيُّ حينئذٍ منشؤُه الذي لا ينفك عنه القولُ أصلاً وإنما عبّر عنه به إبانةً لما بينهما من شدة الاتصالِ، أي يتفوّهون بقول لا وجودَ له أو لِمَنشَئه في قلوبهم أصلاً من الأباطيل التي من جملتها ما حُكي عنهم آنفاً فإنهم أظهروا فيه أمرين ليس في قلوبهم شيءٌ منهما، أحدُهما عدمُ العلمِ بالقتال والآخَرُ الاتباعُ على تقدير العِلمِ به، وقد كذَبوا فيهما كذِباً بيّناً حيث كانوا عالمين به غيرَ ناوين للاتّباع بل كانوا مُصِرِّين مع ذلك على الانخذال عازمين على الارتداد، وقوله عز وجل: {والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} زيادةُ تحقيقٍ لكفرهم ونفاقِهم ببيان اشتغالِ قلوبِهم بما يخالف أقوالَهم من فنون الشرِّ والفسادِ إثرَ بيانِ خُلوِّها عما يوافقها، وصيغةُ التفضيلِ لما أن بعضَ ما يكتُمونه من أحكام النفاقِ وذمِّ المؤمنين وتخطئةِ آرائِهم والشماتةِ بهم وغيرِ ذلك يعلمه المؤمنون على وجه الإجمال، وأن تفاصيلَ ذلك وكيفياتِه مختصةٌ بالعلم الإلهي.

.تفسير الآيات (168- 169):

{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)}
{الَّذِينَ قَالُواْ} مرفوعٌ على أنه بدلٌ من واو يكتُمون أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وقيل: مبتدأ خبرُه {قل فادرؤا} بحذف العائدِ تقديرُه {قُلْ لَهُمْ} الخ، أو منصوبٌ على الذم أو على أنه نعتٌ للذين نافقوا أو بدلٌ منه، وقيل: مجرورٌ على أنه بدلٌ من ضمير أفواهِهم أو قلوبِهم كما في قوله:
على جودِه لضن بالماء حاتمُ

والمرادُ بهم عبدُ اللَّه بنُ أُبيّ وأصحابُه {لإخوانهم} أي لأجلهم وهم من قُتل يومَ أحدٍ من جنسهم أو من أقاربهم فيندرج فيهم بعضُ الشهداءِ {وَقَعَدُواْ} حال من ضمير قالوا بتقدير قد، أي قالوا: وقد قعدوا عن القتال بالانخذال {لَوْ أَطَاعُونَا} أي فيما أمرناهم به ووافقونا في ذلك {مَا قُتِلُوا} كما لم نُقتلْ، وفيه إيذانٌ بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا وأغْوَوْهم كما غَوَوْا، وحملُ القعودِ على ما استصوبه ابنُ أُبيّ عند المشاورةِ من الإقامة بالمدينة ابتداءً، وجعلُ الإطاعةِ عبارةً عن قبول رأيِه والعملِ به يرُده كونُ الجملةِ حاليةً فإنها لتعيين ما فيه العصيانُ والمخالفةُ مع أن ابنَ أبيَ ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى، على أن تخصيصَ عدمِ الطاعةِ بإخوانهم ينادي باختصاص الأمرِ أيضاً، بهم فيستحيل أن يُحمَلَ على ما خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند المشاورة {قُلْ} تبكيتاً لهم وإظهاراً لكذبهم {فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ} جوابٌ لشرط قد حُذف تعويلاً على ما بعده من قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ صادقين} كما أنه شرطٌ حُذف جوابُه لدِلالة الجوابِ المذكورِ عليه أي أن كنتم صادقين فيما يُنبىء عنه قولُكم من أنكم قادرون على دفع القتلِ عمن كُتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموتَ الذي كُتب عليكم مُعلَّقاً بسبب خاصَ موقتاً بوقت معيّنٍ بدفع سببِه، فإن أسبابَ الموتِ في إمكان المدافعةِ بالحال وامتناعِها سواءٌ، وأنفسُكم أعزُّ عليكم من إخوانكم وأمرُها أهمُّ لديكم من أمرهم، والمعنى أن عدمَ قتلِكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوباً عليكم لا بسبب أنكم دفعتموه بالقُعود مع كتابته عليكم فإن ذلك مما لا سبيلَ إليه، بل قد يكون القتالُ سبباً للنجاة والقعود مؤدياً إلى الموت. رُوي أنه مات يوم قالوا سبعون منافقاً، وقيل: أريد {إِن كُنتُمْ صادقين} في مضمون الشرطية، والمعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقُتلوا قاعدين كما قُتلوا مقاتِلين فقوله تعالى: {فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ} حينئذ استهزاءٌ بهم، أي إن كنتم رجالاً دفّاعين لأسباب الموتِ فادرؤا جميعَ أسبابِه حتى لا تموتوا كما درأتم في زعمكم هذا السببَ الخاصَّ.
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أمواتا} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيان أن القتلَ الذي يَحذَرونه ويُحذّرون الناسَ منه ليس مما يُحذر بل هو من أجل المطالبِ التي يتنافسُ فيها المتنافسون إثرَ بيانِ أن الحذرَ لا يُجدي ولا يغني.
وقرئ {ولا تحسِبن} بكسر السين، والمرادُ بهم شهداءُ أحدٍ وكانوا سبعين رجلاً: أربعةٌ من المهاجرين حمزةُ بنُ عبدِ المطلب ومُصعبُ بنُ عميرٍ وعثمانُ بنُ شهابٍ وعبدُ اللَّه بنُ جحشٍ وباقيهم من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب. وقرئ بالياء على الإسناد إلى ضميره عليه السلام أو ضمير مَنْ يحسَب، وقيل: إلى الذين قُتلوا، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ لأنه في الأصل مبتدأٌ جائزُ الحذفِ عند القرينةِ، والتقديرُ ولا يحسَبنّهم الذين قُتلوا أمواتاً أي لا يحسبن الذين قُتلوا أنفسَهم أمواتاً، على أن المرادَ من توجيه النهي إليهم تنبيهُ السامعين على أنهم أحِقاءُ بأن يَسْلُوا بذلك ويَبْشُروا بالحياة الأبديةِ والكرامةِ السنية والنعيمِ المقيمِ، لكن لا في جميع أوقاتِهم بل عند ابتداءِ القتلِ إذ بعد تبيُّن حالِهم لهم لا يبقى لاعتبار تسليتِهم وتبشيرِهم فائدة ولا لتنبيه السامعين وتذكيرهم وجه وقرئ {قتلوا} بالتشديد لكثرة المقتولين {بَلْ أَحْيَاء} أي بل هم أحياء، وقرئ منصوباً أي بلِ احسَبْهم أحياءً على أن الحُسبانَ بمعنى اليقين كما في قوله:
حسِبتُ التقي والمجدَ خيرَ تجارة ** رَباحاً إذا ما المرءُ أصبح ثاقلاً

أو على أنه واردٌ على طريق المشاكلةِ {عِندَ رَبّهِمْ} في محل الرفعِ على أنه خبرٌ ثانٍ للمبتدأ المقدرِ، أو صفةٌ لأحياءٌ، أو في محل النصبِ على أنه حالٌ من الضمير في أحياءٌ، وقيل: هو ظرفٌ لأحياء، أو للفعل بعده، والمرادُ بالعندية التقربُ والزلفى. وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ المنبئةِ عن التربية والتبليغِ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم مزيدُ تكرمةٍ لهم {يُرْزَقُونَ} أي من الجنة، وفيه تأكيدٌ لكونهم أحياءً وتحقيقٌ لمعنى حياتِهم.
قال الإمام الواحدي: الأصحُ في حياة الشهداءِ ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن أرواحَهم في أجواف طيورٍ خُضْرٍ وأنهم يُرزقون ويأكْلون ويتنعمون. ورُوي عنه عليه السلام أنه قال: «لما أصيب إخوانُكم بأحُدٍ جعل الله أرواحَهم في أجواف طيورٍ خضْرٍ تدور في أنهار الجنة» وروي: «ترِدُ أنهارَ الجنةِ وتأكُل من ثمارها وتسرَح من الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديلَ من ذهب معلقةٍ في ظل العرشِ» وفيه دَلالةٌ على أن روحَ الإنسانِ جسمٌ لطيفٌ لا يفنى بخراب البَدَن ولا يتوقف عليه إدراكُه وتألُّمه والتذاذُه، ومن قال بتجريد النفوسِ البشريةِ يقول: المرادُ أن نفوسَ الشهداءِ تتمثل طيوراً خُضْراً أو تتعلق بها فتلتذّ بما ذكر. وقيل: المرادُ أنها تتعلق بالأفلاك والكواكبِ فتلتذ بذلك وتكتسب زيادةَ كمالٍ.

.تفسير الآية رقم (170):

{فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)}
{فَرِحِينَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} وهو شرفُ الشهادةِ والفوزُ بالحياة الأبديةِ والزلفى من الله عز وجل والتمتُّع بالنعيم المخلِّد عاجلاً.
{وَيَسْتَبْشِرُونَ} يُسِرّون بالبشارة {بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} أي بإخوانهم الذين لم يُقتلوا بعدُ في سبيل الله فيلحقوا بهم {مّنْ خَلْفِهِمْ} متعلقٌ بيلحقوا والمعنى أنهم بقُوا بعدهم وهم قد تقدموهم، أو بمحذوف وقع حالاً من فاعل يلحقوا أي لم يلحقوا بهم حالَ كونِهم متخلِّفين عنهم باقين في الدنيا {أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} بدلٌ من الذين بدلَ اشتمالٍ مبينٍ لكون استبشارِهم بحال إخوانِهم لا بذواتهم. وأن هي المخففةُ من أنّ واسمُها ضميرُ الشأنِ المحذوفِ، وخبرُها الجملةُ المنفيةُ أي يستبشرون بما تبين لهم من حسن حالِ إخوانِهم الذين تركوهم وهو أنهم عند قتلِهم يفوزون بحياة أبديةٍ لا يكدِّرُها خوفٌ ولا وقوعُ محذور ولا حزنٌ على فوات مطلوبٍ، أو لا خوفٌ عليهم في الدنيا من القتل فإنه عينُ الحياةِ التي يجب أن يُرغَبَ فيها فضلاً عن أن تُخافَ وتحذَر، أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون، والمرادُ بيانُ دوامِ انتفاءِ الخوفِ والحزنِ لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانيةِ مضارعاً، فإن النفيَ وإن دخل على نفس المضارعِ يفيدُ الدوامَ والاستمرارَ بحسب المقام.